رواية وداع مع الأصيل
تحكي رواية وداع مع الأصيل للكاتبة الفلسطينية فتحية محمود الباتع ظلم العدوان الإسرائيلي الذي مارسه على الشعب الفلسطيني كما جسدت لنا الرواية الواقع المعاش في بلاد العرب فلسطين، أحداث واقعية عن قصة حب فلسطينية نشأت في حب الوطن و ضحت من أجله، تضمنت أحداث الرواية أنواعاً من المآسي و الأحزان التي دونها التاريخ على صفحات دامية لشخصيات جمعت بين خصال النبل وأصالة الخلق و التفاني في حب الوطن و الفداء، و بين القبح و جشع النفوس و سوء الإدراك و غفلة الضمير.
ملخص الرواية
في بقعة جميلة هادئة من جبل الكرمل الشامخ المهيب القائم في أبدع مدن فلسطين (حيفا) شاد البناؤون منزلا أقرب إلى القصور بفخامته و روعته ، يقيم في هذا القصر شكري بك و زوجته ظريفة و ابنة أخيه سعاد أرملة ولدهما المتوفى ، وكان لهما ابنة مدللة اسمها هدى أما وحيدهما وليد فقد بعثا به إلى انجلترا ليتلقى علومه هنالك .
و في أمسية من أمسيات الصيف ، جلست نجلاء في شرفة بيتها الصغير المواجهة لذلك القصر تحيك بعض الثياب و هي أرملة في نحو الخمسين من عمرها ، مهيبة الطلعة ، عاقلة رزينة ، لها ابنة وحيدة تعيش معها اسمها سلمى ،وكانت الفتاة صبية هيفاء دون العشرين على جانب عظيم من الجمال ، مات أبوها في ثورة عام 1936 واقتدى به أخوها ، ربتها أمها تربية كريمة جمعت بين تعليم اللغة العربية و بعض اللغات الأخرى منها العبرية ، موهبتها فن الرسم الذي برعت فيه براعة فذة فكانت لها لوحات رائعة تعود عليها بأموال ، كان يساعدها في بيعها جارهما حامد وهو رجل وقور جاوز سن الشباب عرف بحسن السيرة و دماثة الخلق كان صديقا لوالد مسلمي يتفقدها و أمها.
جلست سلمی في هذه الأمسية تكمل رسم لوحتها ، وكانت الشمس قد بدأت بالمغيب حتى مر عن مقربة من بيتها فتي مديد القامة وسيم الطلعة ، تنطبع على محياه الجميل دلائل الشهامة و النبل و كانت سنه لا تتجاوز بضعة و عشرين عاما ، إذ لمح تلك الغادة الحسناء وهي مكبة على لوحتها ، ولم تشعر بالفتى الذي بهره جمالها فتسمر مبهوتا في مكانه ، ثم سار في طريقه إلى مالك القصر شكري بيك قد عاد من إنجلترا بعد أن درس الحقوق هناك .
أصبح وليد منذ اكتحلت عيناه برؤية سلمي منطويا على نفسه دائب التفكير في أمرها ، و لكنه كان يعلم لو أفضى بمثل هذا النبأ لوالدته لن تتقبله بالرضا لرغبتها في تزويجه بإحدى قريباته لذا آثر أن يذهب لابنة عمه سعاد ليقضي إليها بما في نفسه ، فسألها عن أمر تلك الفتاة الحسناء ، فقالت : أتقصد غادة الكرمل ؟ فسألها إن كان هذا هو اسمها ، قالت : هذا ما لقبها به أهل الحي لأنها أجمل فتيات الجبل ، أما اسمها فهو سلمی ، فقال لها قصي علي ما تعرفينه من أمرها ، أدركت سعاد أن ابن عمها عازم على طلب يد الفتاة ، فقالت له : ليس لك إلا العم حامد فهو بمثابة أب الفتاة و أخ لأمها.
تقدم وليد لخطبة سلمى و رفضت الأخيرة بسبب والده الذي جمع ثروته بخيانته لوطنه ، فكانت الصدمة لها صداها في نفس وليد ، إلا أنه تلقاها بصبر و جلد مما أثر في صحته ، وانصرف لشأنه و افتح مكتبا فخما للمحاماة في قلب المدينة ، ولم تنقض عليه شهور قلائل حتى لمع اسمه و أحبه القوم و أخلصوا له و طغى اسمه على سيرة أبيه ، فسرعان ما تذمر الأب من مسلك ابنه ، و شعر مع مرور الأيام أنه يثقل كاهله بمطالبه و اعتبر سلوكه ذلك عبثا و ارتجالا و أنه حذا حذو أخيه الراحل في عقوقه و عصيانه ، و قد كان للأب شكري كلمة و مكانة لدى الحكومة المستعمرة للبلاد فأرسل ابنه إلى منفاه في معتقلات (صرفند ) ، افتد المواطنون فتاهم الباسل الأمين ، وسرعان ما سرى بينهم نبأ اعتقاله بإيعاز من والده و بدأ الخوف يتسرب إلى قلب الأب ، فرحل هو و أسرته إلى مدينة (يافا) مستأجرا منزلا صغيرا في حي العجمي ، ازداد مرض شکري و طالت أيام سجنه وسط ذلك المنزل الصغير إلى أن توفي ، و عادت النسوة الثلاث إلى مدينة (حيفا)، بعد انقضاء شهرين على موت شكري بك أطلق سراح وليد و عاد إلى دياره .
في أحد الأيام خرج وليد يتمشي و في طريقه التقى بسلمى فاتحها في موضوع الزواج ، حينها علمت أن وليد غير أبيه ، فوافقت على الزواج منه علما أن والدته لم تكن موافقة ، اقترن ولید بسلمى و أولاها دلالا و حبا قلما تناله زوجة من زوجها ، و هكذا سارت حياتها على هذا المنوال ، فشوط تقطعه سعيدة في ظل زوجها بجانبها ، و شوط تتقهقر فيه كئيبة ، لما تلقاه من أمه و أخته اللتين استخدمتا غلاظتهما و جحود قلبيهما كمعول لتحطيمها و إذلالها ، ولبثت تلك حالها إلى أن فوجئت يوما بخبر مرض أمها فذهبت إليها ترعاها و تسهر على راحتها ولم يكد ينقضي أسبوع رابع حتى كانت قد فارقت الحياة ، و كانت صدمة لها أثرها في نفس سلمی .
مرت بعد ذلك بضعة شهور ، و ضعت سلمی غلاما جميلا أطلقت عليه اسم خالد فكان عزاؤها و سلوتها في ساعات وحدتها ، وما كاد يبلغ الرابعة من عمره حتى بدا حاد الذهن ، فصيح اللسان ، شديد التعلق بأمه ، فكانت سعادة ، أبويه به لا يقدر فأخذا يعملان على تربيته و نشأته النشأة التي يريدانها له .
هكذا كانت مسلمی و وليد و كان ذلك في أوائل عام 1947 حتى أذيع على الملأ نبأ تقسيم أرض (فلسطين) بين أهلها العرب و اليهود الدخلاء ، فأخذ العرب يتأهبون و انتشر الشباب الفلسطيني هنا و هناك في بقعة و قرية من أرضهم في ذلك الحين كان وليد قد ودع زوجته سلمی ماض للقتال في سبيل الوطن موصيا بابنهما خالد ،حيث أعد مكمنه عند وادي روشيما و في طريقه قابل العم حامد في دكانه ليوصيه بشأن أهل بيته مرت الأيام و تحولت مدينة حيفا إلى أشبه قطعة من الجمر ، وتضاعفت حملات اليهود و تكررت هجماتهم بما لديهم من الذخيرة و الأسلحة الحديثة ، و كل ذلك و سلمي لم ينعدم أملها في فوز العرب و نصرهم ، في حين كان وليد يبعث لها بين اليوم و الأخر رسولا يحمل لها السلام و يطمئنها على أحواله ، حتى جاء يوم انتظرت فيه رسول زوجها في ميعاده فلم يأت، و انقضت بضعة أيام أخرى لم تسمع عنه خرا ، فتملكها جزع شديد و ركبت الهواجس رأسها .
جاء العم حامد ذات صباح يتفقد سلم و أهل زوجها كعادته فوجدها في قلق من أجل زوجها فسألها عن مكمنه ليأتيها بأخباره، فأنكرت مكان وجوده رغم ثقها الكبيرة به سار حامد إلى دكانه فلما وصله أخذ مجلسه و راح يستعيد بمخيلته ما شاهده من أمر سلمی و فزعها على حياة زوجها و إصرارها على كتمان أمره ، و بينما هو غارق في بحر أفكاره ، إذ بصوت يقرئه السلام فرفع بصره ليري وليد ماثلا أمامه فسأله الأخير عن أهله فأخبره حامد أنهن في خير حال .
ولكن انقطاع أخبارك عنهن سبب لهن كثيرا من الفزع ، فقال له وليد قم بترحيل أهل بيتي إذا دنا منه الخطر ويلغهن سلامي ، فطلب حامد من وليد أن يعطيه علامة يحملها لزوجته سلمى تشهد على سلامته و اجتماعه به ، فأعطاه وليد منديلا كانت قد أعطته إياه زوجته عند مغادرته البيت للجهاد ، وفي إحدى الليالي ذهب حامد لبيت سلمي ليخبرها أن العرب قد احتلوا تلك القلعة القائمة عند سفح الجيل ، فدهشت للأمر و سألته كيف حصل ذلك فرمي لها بالمنديل وقال لها : صاحب هذا المنديل هو قائد تلك الحملة و هو متواجد في القلعة و يطلب لقاءك الآن فاستغربت سلمى وتساءلت في قراراتها ما الذي طرأ على زوجها حتى أنه يطلب لقاءها عاجلا و الوقت ليلا.
سار حامد و سلمى وسط الظلام يخترقان (جبل الكرمل) ليعبرا الطريق إلى القلعة دون أن يشعرا بهما اليهود ، وعند وصولهما للقلعة دخلا باب الحجرة ، فسألته أين وليد يا عماه ، قال وقد انقلبت سحنته حسبك الآن أن تدركي أنني يهودي و اسمي شمعون ولست بالعم حامد أبدا ، وقد انتحلت تلك الشخصية المستعارة عشرين عاما لأتمكن من صيد محاربيها ، و التقاط أبناء أعدائنا و كشف أسرارهم ، و إذا بسلمي ما زالت في ذهولها و جمودها تحدق به دون حراك ، فطلب منها عن مكان زوجها و مكمنه ، فأنكرت و قالت له إنها لا تعرف مكانه ، فهددها بشرفها، و إرسالها للجنود اليهود ، فاستسلمت و أخبرته بمكمن زوجها المتواجد في (وادي روشیما ) ، فهي شمعون و الجنود الهجوم على وليد و رفقائه ، وعند مغادرتهم القصر دخل الحجرة التي تتواجد بها سلمى رجل من المجاهدين العرب يعمل جاسوسا لدى الجنود اليهود و خلصها من أسرها و أوصلها إلى بيتها، و بالمقابل هناك جاسوسا يدعى محمد كان قد سبق شمعون و رجاله إلى (وادي روشيما ) حيث مكمن وليد لتحذيره و عندما قص عليه القصة علم أن زوجته وقعت في فخ فأوصي رجاله بالخطة التي وضعها لإبادة الأعداء الذين هم في طريقهم إليه ، و سار لإنقاذ زوجته من قبضة اليهود دون علمه أنه قد أنقذها جاسوسهم ، و عند وصول الأعداء اليهود إلى المكان قضى عليهم المجاهدين العرب ، و في الليلة التي رجعت فيها سلمى إلى بيت زوجها كان قد جرى بينها و بين أم وليد حوار ، مما أدى إلى طردها من البيت ، فحملت ابنها و ذهبت إلى بيت أمها .
في يوم 20 أفريل 1948 حمي الوطيس بين اليهود و العرب فجزعت سلمي للأمر و كانت على جهل من أمر زوجها و مصيره وبينما كانت جالسة مع والدها خالد طرق مسامعها في تلك اللحظة خفق نعال غليظة تكتب حول بيتها يخالطها صليل سلاح و همهمة ، كان أحد الجنود اليهود قفز من فوق سور الحديقة .
وقد اشتد اصفرارها وجمدت أطرافها ، وما إن ولج الجندي الحجرة حتى هم بالطفل فاقتلعه من حجر أمه رافعا سكينه فوق عنقه و اندفعت في الأم في تلك اللحظة قوة هائلة طاش معها صوابها ، فثارت من مكانها ثورة الليث الهائج ، إلا أن الوحش سرعان ما ركل الأم بعيدا و هي تحاول تخليص ولدها من بين يديه ، و قطع على الطفل صوته بضربة قاسية على عنقه الصغير فتدحرج رأسه الجميل تحت قدمي أمه فأنت أنين المطعون و جثت تتحسس جثة ولدها ، فأكبت عليه تقبله و تمرغ وجهها بدمه ، و تحتضن جثته الصغيرة وتلصق بها رأسه المخضب بسيل من دمائه إلى أن غسلت الدماء وجهها ، وعند بزوغ فجر اليوم التالي لمصاب سلمى كانت أم وليد و أخته هدى قد ذهبنا للشاطئ لمغادرة البلاد ، أما سعاد فقد رفضت المغادرة معهم و ذهبت لبيت سلمى و عند دخولها البيت أغمى عليها من هول المنتظر
دارت دورة الزمن ، و كان قد مضى على تلك النكبة التي حطت بمدينة (حيفا) و أهلها ستة شهور ، و كان قد أعقبها أكثر من نكية نزلت بأكثر من مدينة من مدن (فلسطين) فهاجر الناس متفرقين هنا و هناك بين الأقطار العربية و بين البقية من أرض فلسطين ، فباتوا مشتتین مبددا شملهم .
كان مدير المكتب الخاص بالمهاجرين الفلسطينيين جالسا وراء مكتبه في العاصمة اللبنانية بيروت حين استأذنه شاب مديد القامة ، مبتور الذراع اليمني ، يعلوه غبار السفر ، يطلب مقابلته ، فسأله عما إذا كانت عائلته مدونة ضمن سجل المهاجرين الفلسطينيين فأعطاه المدير ثلاثة من أسماء عائلته المتواجدة ب (بيروت) مع العنوان ، بحيث كان هذا الشاب وليد فستقل مركبة تقله وفي طريقه كان يحدث نقسه كيف ستلقاه سلمي بعد هذا الفراق الطويل وقد عاد إليها بذراع واحدة و الأخرى مبتورة ؟ و كيف سيجد ابنه الحبيب ؟ و أمه و أخته بعد أن افترقا عن قصرهما المنيف ؟ و بعد نزوله من المركبة ماشيا في طريقه التقى مع ابنة عمه سعاد ذاهبة إلى البيت الذي تسكن فيه ، فدهشت لرؤيته و رحبت به ، فراح يسألها عن أحوالهم فأخبرته ان ولده قد توفي ، و سلمى منذ ذلك الحين أصبحت شاردة شبه مجنونة و عند وصولهما إلى البيت وما كاد يدلف إلى الداخل حتى طالعته زوجته الحبيبة تقف في أرض الحديقة هزيلة شاحبة ، فاندفع إليها يكلمها ، وما لبثت أن تحولت عنه كمن لا عهد به قبل اليوم و بعد أيام اشتد مرض سعاد فتم نقلها إلى مصحات جبل لبنان) حيث مكثت هناك أسبوعين لم ينقطع فيهما وليد عن زيارتها و في أحد الأيام سمع خبر موتها فصدم لذلك صدمة شديدة ، فبكاها بكاء الأخ أخته الرؤوم .
مرت بضعة أيام على موت سعاد كان فيها وليد كئيبا منطويا على نفسه يعني بأمر زوجته ، حتى بدأت تتحسن شيئا فشيئا حتى استعادت جزءً من ذاكرتها ، إلا أنها لم تتذكر أن ولدها قد توفي ، و عندما تسأل زوجها عن أمر ابنها يقول لها هو في رحلة مع ابنة عمه سعاد إلى أن جاء يوم استلمت فيه سلمی برقية من أخت زوجها هدى تطلب عفوها و تعزیها في ابنها خالد فصدمت سلمی عند قرائتها الرسالة التي كشفت لها الستار عن كل ما تجهله من أمر وطنها و أهلها و ولدها ، حتى ولج البيت زوجها و هي تلفظ أنفاسها الأخيرة موصية إياه بزيارة قبرها ، وبكتابة رسالة لأختها يبلغها فيها بأنها سامحتها وودعته بنظرة أخيرة حانية ، فجمد دمعه في مآقيه ، و لبث شاخصا ينظر إليها فلا ينطق ولا يطرف ، وما صحا من ذهوله إلا من حين ، فنهض يترنح في وقفته ترنح المهيض المطعون ، فأعد معدات الدفن و شیعها إلى مثواها ، و عند رجوعه من المقبرة التقى بأمه مندفعة إليه تطلب عفوه فرد بصوت خافت لقد عفوت يا أماه ، و بعد دخولهما البيت سألته عن سلمى فأخبرها بأنها فارقت الحياة ، ثم ودعها ومضى أخذا طريقه إلى ميناء الشاطئ ، ومن هناك أبحر عائدا إلى شاطئ (فلسطين).
تعليقات
إرسال تعليق